كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إلا أن الشافعي يوجب الترتيب تلقيا من إدراج الممسوح في تضاعيف المغسولات، وأن ذلك لا يكون إلا عن قصد ترتيبالأشياء على النسق المذكور، كما قررناه في مسائل الفقه.
فإن قيل: فالأرجل معطوفة في المعنى على الأيدي، وأن معناها:
فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم وامسحوا برؤسكم، وإنما يمكن رد الرجل إلى اليد على تقدير رفع الترتيب.
قلنا: هذه جهالة، فإن الذي قلتموه ترتيب في المعنى ورد من هذه الجهة، وإن حصل الترتيب من حيث الزمان، ولو رتب البعض على البعض بكلمة، ثم لكان الذي ذكروه ممكنا، ولا حاصل لما قالوه.
واستنبط أصحاب أبي حنيفة من هذه الآية، أن الاستنجاء لا يجب لأن اللّه تعالى لما قال: {إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ}، كان الحدث مضمرا فيه، وتقديره: إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون.
وقال في نسق الآية: {أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ}.
فلم يوجب عليه أكثر من المذكور، وذلك يدل على أنه إذا أتى بالمذكور استباح الصلاة.
أو قال: {أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ}، وهو كناية عن الخارج النجس، ولم يقل اغسلوا موضع الخارج، وإنما قال فاغسلوا وجوهكم.
فيقال لهم: إن الذي ذكرتم ليس يدل على ما استنبطتموه، وذلك أن المراد منه بيان غسل ما لا يظهر أثر الخارج في غسله، وهو أعضاء الوضوء، فأما إزالة النجاسات عن البدن والثوب وغيرهما من المواضع النجسة، فحكمها مأخوذ من موضع آخر، وليس يقتضي بيان حكم الوضوء بيان حكم شرائط الصلاة كلها، فإن الصلاة موقوفة إجماعا على ستر العورة، ولا ذكر له في هذه الآية، وموقوفة على طهارة البدن والثوب مما فوق النجاسة التي يعفي عنها على مذهبكم، ولم يكن السكوت عنه مانعا عدم اشتراط السكوت عنه في إجزاء الفعل، فاعلمه.
قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}:
إنما سمى جنبا لأجل ما لزمه من اجتناب أفعال بينها الشرع.
فالجنابة هي البعد والاجتناب، ومنه قوله تعالى: {وَالْجارِ الْجُنُبِ}، يعني البعيد منه نسبا، فصارت الجنابة في الشرع اسما للزوم اجتناب ما وصفناه من الأمور.
وأصله التباعد عن الشيء، ثم ليس بتباعد عن كل شيء، وإنما هو تباعد من شيء دون شيء، مثل الصوم: في الأصل عبارة عن الإمساك وليس الصوم في الشرع إمساكا عن كل شيء، إنما هو عن شيء دون شيء، وبيان ذلك إلى الشرع. ومطلق اللفظ ينصرف إلى ما استقر عرف الشرع عليه.
واستنبط من أوجب المضمضة والاستنشاق من قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}، أنهما فرضان عليه، لأن قوله: {فَاطَّهَّرُوا} عموم، وقرر الرازي هذا في أحكام القرآن، ثم وجه على نفسه سؤالا فقال:
إن قال قائل: من اغتسل ولم يتمضمض ولم يستنشق يسمّى متطهرا، فقد فعل ما أوجبته الآية؟ فقال:
إنما يكون مطهّرا لبعض جسده، وعموم الآية يقتضي تطهير الجميع، فلا يكون بتطهير البعض فاعلا لموجب عموم اللفظ.
ألا ترى أن قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}، عموم في سائرهم، وإن كان الإسم يتناول ثلاثة منهم؟ فكذلك ما وصفناه.
ولما لم يجز لأحد أن يقتصر من حكم آية قتال المشركين على ثلاثة منهم، لأن الإسم يتناولهم، إذ كان العموم شاملا للجميع، فكذلك قوله: {فَاطَّهَّرُوا} عموم في سائر البدن، فلا يجوز الاقتصار على بعضه.
فهذا ما ذكره سؤالا، واستدلالا وانفصالا.
والذي ذكره باطل عندنا قطعا، فإن صيغ جموع الكثرة حقيقة في الاستغراق، فهي فيما دونه مجاز، لأن الوضع الأصلي فيها الاستغراق.
فأما قوله: تطهر فلان، فليس حقيقة في قدر دون قدر، فإذا غسل أي موضع غسل من بدنه، فقد تطهر، ولم يذكر اللّه تعالى موضع الطهارة أصلا، لا بلفظ يقتضي عموم البدن، ولا بلفظ يخالفه، وإنما قال فاطهروا، وليس فيه ما يوجب عموما أو خصوصا، ولكنه لإبانة ما يسمى اطهارا، ولا يمكنه أن يقول: من غسل بدنه جميعه إلا داخل الفم والأنف، فلا يقال له اطهر حقيقة، وما جاء به ليس باطهار حقيقة بل لفظ الاطهار في هذا القدر مجاز، كما أن الاستغراق فيما دونه مجاز وذلك يتبينه العاقل بأوائل النظر في مثل ذلك.
قال: إن المأمور خرج من موجب الأمر بما يسمى به متطهرا.
وقال تعالى في موضع آخر: {وَلا جُنُبًا إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا}، يقتضي جوازها مع تركها، لوقوع اسم المغتسل عليه، واسم المغتسل حقيقة في حق من لم يتمضمض، واسم المتطهر حقيقة في حق من لم يتمضمض فلا حاصل لقوله هذا، فاعلمه وثق به.
قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ}:
فهم العلماء من قوله مرضى، كون المرض مبيحا للتيمم إذا كان في استعمال الماء ضرر، لأنه لو لم يحمل على ذلك، كان ذكر المرض لغوا عند عدم الماء، ولم يفهموا من ذكر المسافر اعتبار السفر فقط، بل اعتبروا عدم الماء، وإن كان عدم في حق غير المسافر يبيح التيمم، لأن السفر يغلب فيه عدم الماء، ويندر في الإقامة مثل ذلك، فكان للسفر تعلق بعدم الماء، وليس للمرض تعلق به، فلم يفهم منه عدم الماء، وإنما فهم منه ما يفضي إليه المرض من الضرر باستعمال الماء.
وإذا ثبت هذا فقد قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ} الآية.
ذكر المرض والسفر مع الأحداث ذكرا واحدا، وليسا حدثين، فلا جرم اختلف العلماء في معنى الآية:
فأما زيد بن أسلم فإنه ذكر في الآية تقديما وتأخيرا فقال:
تقديره: إذا قمتم إلى الصلاة من نوم، أو جاء أحد منكم من الغائط أو لمستم النساء، فاغسلوا وجوهكم- إلى قوله- وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر ولم تجدوا ماء.
والذي يرد على هذا من الاعتراض على مقتضى هذا القول: فيكون ذاكرا بعض أسباب الحدث، من غير أن يذكر الحدث مطلقا، ويكون ذاكرا للجنابة المطلقة من غير ذكر أسبابها وموجباتها، فإن غير زيد بن أسلم يقول:
تقدير الآية: «إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون مطلقا»، لينتظم مع قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}، فإنه إذا ذكر أسباب الحدث عند وجود الماء، فيشبه أن يذكر أسباب الجنابة، وإن ذكر الحدث مطلقا، ذكر الجنب مطلقا، ففيما ذكره زيد بن أسلم قطع الانتظام من هذا الوجه. مع انه لم يبين تمام الأحداث، فإنه لم يذكر النوم وهو حدث، ولا زوال العقل بأي سبب كان، ولامس الذكر عند قوم، ولا خروج الخارج من غير السبيلين عند قوم، فهذا يرد على تقدير التقديم والتأخير، مع أن تقدير التقديم والتأخير يورث ركاكة في النظم، واستكراها في النطق، وحيدا عن أحسن الجهات في البيان، وإنما يجوز لضرورة تدعوه إليه.
وعند ذلك قال آخرون: الداعي إلى التقديم والتأخير، أنه عد المرض والسفر معد الأحداث، ونحن نقدر تقديرا آخر ليزول ذلك فنقول: قوله تعالى: {إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا}: معناه وأنتم محدثون، وإن كنتم جنبا فاطهروا، فقد بين السببين الأصليين للطهارتين الصغرى والكبرى، ثم قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ} معناه: وجاء، وقد ورد «أو» بمعنى الواو، وذلك راجع إلى المرض والسفر إذا كانا محدثين ولزمهما، وجعل «أو» بمعنى الواو في كتاب اللّه تعالى، وفي أشعار العرب موجود.
إلا أن الذي يرد عليه أنا إذا قلنا إن معنى أول الآية: «إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون»، ثم قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} فقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ}، يظهر رجوعه إليهما ولا معنى لذكر المجيء من الغائط ولمس النساء، فإنّ الحدث المطلق، الجنابة المطلقة تشملهما، وما سواهما فليس لذكرهما فائدة، ففي كل واحد من التقريرين نوع اعتراض وبعد.
واللّه أعلم بمراده من الآية.
قوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ}، حمله قوم على الجماع، وقوم على الجس باليد.
فأما قراءة اللمس فظاهرة في الجس والملامسة، من حيث إنها على صيغة المفاعلة، ويقال استعمالها في الجس باليد، توهم قوم أنها بمعنى الجماع، وكيف ما قدر أمكن أن يعمل بالقرائن. وتجعل القرائن كالإثنين فيعمل بهما جمعا، أو يجعل اللمس محمولا على الجس باليد وعلى الجماع أيضا، لأنه يتضمن ذلك غالبا، وقد بسطنا القول في هذا فيما تقدّم فلا نعيده.
قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}:
اعلم أن اللّه تعالى ذكر المرضى فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ} ثم قال: {فَلَمْ تَجِدُوا ماءً}، فلابد أن يرجع الشرط إلى ما تقدم ذكره، وعدم الماء ليس معتبرا حقيقة في حق المريض، فيدل معنى الآية على أن اللّه تعالى، إنما عنى بالموجود، إمكان استعمال الماء وإن كان واجدا للماء صورة، ولكنه معجوز عنه، فكأنه لم يجده، فإنا لو لم نقدر ذلك، لم يستقم جعل قوله: {فلم تجدوا} عائدا إلى المرضى، وذلك خلاف الإجماع والنظم.
وإذا كان معنى الوجود إمكان الاستعمال شرعا وطبعا، ولو كان الماء عنده وديعة، فليس واجدا للماء شرعا، وإن كان في استعماله التلف فليس واجدا للماء شرعا.
وإذا ثبت ذلك فقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا ماءً}، إذن أريد به وجودا لا يتضمن ضررا ظاهرا، وإذا بيع بثمن أكثر من ثمن المثل لم يجب عليه سداده.
واختلف قول الشافعي في من وجد من الماء ما لا يكفي لتمام طهارته:
ففي قول: يتيمم، وهو قول أكثر العلماء، لأن اللّه تعالى جعل فرضه الشيئين: إما الماء وإما التراب، فإذا لم يكن الماء مغنيا عن التيمم كان غير موجود شرعا.
وعلى القول الآخر يقول: إن اللّه تعالى ذكر الماء، فاقتضى ذلك أن لا يجد ما يقع عليه اسم الماء جملة، وإذا وجد من الماء، ما لا يكفيه، فقد وجد الماء، فلم يتحقق شرط التيمم. فإذا استعمله وفقد الماء، تيمم لما لم يجد.
واختلف قول الشافعي فيما إذا نسي الماء في رحله ثم تيمم، والصحيح أنه يعيد، لأنه إذا كان الماء عنده فهو واجد، لكنه لا يدري أنه واجد، وأن الشيء عنده، والكلام في علم اللّه تعالى، فإذا كان عند إنسان شيء فذلك الشيء هو موجود عنده، وإذا كان موجودا فهو واجد للموجود إذ يستحيل أن يكون موجودا عنده وليس بواجد له، إلا أنه نسي أنه واجد له.
والقائل الآخر يقول: إذا لم يعلمه فلم يجده، وقد يقول: كان عندي ولم أجده، وقد يكون الشيء في دار رجل فيطلبه فيقال له:
هل وجدته أم لا؟ فيقول وجدته أو ما وجدته، فإذا نسيه في رحله فلم يجده.
فيقال: هذا إنما يستقيم أن لو طلبه فلم يجده، وعندنا لو طلب فلم يجد كان مقدورا، إلا أنه لا يجوز أن يكون في الرحل، فيطلب من الرحل فلا يجده، والطلب من الرحل شرط، حتى يقال لمن طلب ولم يجد إنه لم يجد، والشافعي أوجب طلب الماء، لأنه لا يقال لم أجد، إلا إذا طلب، وإذا لم يطلب في مظنة الماء، فلا يحسن أن يقال: لم أجد.
نعم يجوز أن يقال وجد فلان لقطة، وإن لم يكن طلبها، إنما لا يقال لم يجد، إلا إذا طلب فلم يجد.
وهذا يعترض عليه أن الواحد منا قد يقول: أنا لا أجد ما أتوصل به إلى كذا، أو لم أجد أمر فلان مستقيما، واللّه تعالى يقول: {وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ}.
وإذا كان لفظ الوجود لا يقتضي الطلب في قوله تعالى: {وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِرًا}.
{فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا}.
لا أنهم طلبوا، ولا أنه يمكن الطلب في قوله تعالى: {وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ}، لأن اللّه تعالى لا يجوز أن يوصف بالطلب.